فصل: تفسير الآيات (47- 55):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (47- 55):

{نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48) وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52) وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55)}
ولما كانوا ربما ادعوا السمع والفهم فشككوا بعض من لم يرسخ إيمانه-، أتبعه تعالى ما يؤكد ما مضى ويثبت السامعين فيه فقال تعالى على طريقة الجواب مهدداً ودالاً على أن مداركهم معروفة: {نحن أعلم} أي من كل عالم {بما يستمعون} أي يبالغون في الإصغاء والميل لقصد السمع {به} من الآذان والقلوب، أو بسببه من إرادة الوقوع على سقطة يجعلونها موضع تكذيبهم واستهزائهم {إذ} أي حين {يستمعون} أي يصغون بجهدهم، وبين بعدهم المعنوي بقوله تعالى: {إليك وإذ} أي وحين {هم} ذوو {نجوى} أي يتناجون بأن يرفع كل منهم سره على صاحبه بعد إعراضهم عن الاستماع: ثم ذكر ظرف النجوى فقال تعالى: {إذ يقول} مبرزاً لضميرهم بالوصف الدال على حملهم على ما تناجوا به، وهم {الظالمون} ومقولهم: {إن تتبعون} أي أيها التابعون له بغاية جهدكم {إلا رجلاً مسحوراً} مختلط العقل، فامتطوا في هذا الوصف ذروة الظلم، وسيأتي في آخر السورة سر استعمال اسم المفعول موضع اسم الفاعل؛ ثم وصل بذلك الدليل على نسبته سبحانه لهم إلى الجهل الذي كان نتيجة قولهم هذا فقال تعالى: {انظر} ولما كان أمرهم بما يزيد العجب منه وتتوفر الدواعي على السؤال عنه قال تعالى: {كيف ضربوا} أي هؤلاء الضلال {لك الأمثال} التي هي أبعد شيء عن صفتك من قولهم: ساحر وشاعر ومجنون ونحوه {فضلوا} عن الحق في جميع ذلك {فلا} أي فتسبب عن ضلالهم أنهم لا {يستطيعون سبيلاً} أي يسلكون فيه، إلى إصابة المحن في مثل، أو إحكام الأمر في عمل، وهذا بعد أن نهاهم الله بقوله تعالى: {فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون} [النحل: 74] فكأن هذا أول دليل على ما وصفناهم به من عدم الفهم والسمع فضلاً عن أن يكون لهم إلى مقاومة هذا القرآن- الذي يدعون أنه قول البشر- سبيل أو يغبروا في وجهه بشبهة فضلاً عن دليل.
ولما جرت عادة القرآن بإثبات التوحيد والنبوة والمعاد، وقدم الدلالة على الأولين، وختم بإثبات جهلهم في النبوة مع ظهورها، أتبع ذلك أمراً جلياً في ضلالهم عن السبيل في أمر المعاد وقرره غاية التقرير، وحرره أتم تحرير، فقال تعالى معجباً منهم: {وقالوا} أي المشركون المنكرون للتوحيد والنبوة والبعث مع اعترافهم بأنا ابتدأنا خلقهم ومشاهدتهم في كل وقت أنا نحيي الأرض بعد موتها: {أإذا} استفهاماً إنكارياً كأنهم على ثقة من عدم ما ينكرونه، والعامل في {إذا} فعل من لفظ {مبعوثون} لا هو. فإن ما بعد {إن} لا يعمل فيما قبلها. فالمعنى: أنبعث إذا {كنا} أي بجملة أجسامنا كوناً لازماً {عظاماً ورفاتاً} أي حطاماً مكسراً مفتتاً وغباراً {إنا لمبعوثون} حال كوننا مخلوقين {خلقاً جديداً} فكأنه قيل: فماذا يقال لهم في الجواب؟ فقيل: {قل} لهم: لا تكونوا رفاتاً، بل {كونوا} تراباً، بل كونوا أصلب التراب {حجارة} أي هي في غاية اليبس {أو حديداً} زاد على يبس الحجارة شدة اتصال الأجزاء {أو خلقاً} غيرهما {مما يكبر} أي يعظم عظمة كبيرة {في صدوركم} عن قبول الحياة ولو أنه الموت، حتى تعلموا حال الإعادة، كيف يكون حالكم في الإجابة إلى ما يريد؟ فإن الكل أصله التراب، فالذي فضل طينكم- الذي خلقتم منه على سائر الطين بالنمو ثم بالحياة ثم بالنطق وفضل بعض الناطقين على بعض بمواهب لا تحصى- قادر أن ينقل تلك الفضيلة إلى الطين الذي نقله طوراً بعد طور إلى أن جعله حجراً أو حديداً {فسيقولون} تمادياً في الاستهزاء: {من يعيدنا} إذا كنا كذلك {قل الذي فطركم} أي ابتدأ خلقكم {أول مرة} ولم تكونوا شيئاً يعيدكم بالقدرة التي ابتدأكم بها، فكما لم تعجز تلك القدرة عن البداءة فهي لا تعجز عن الإعادة {فسينغضون} أي مصوبين بوعد لا خلف فيه مشيرين {إليك رؤوسهم} أي يحركونها من شدة التعجب والاستهزاء كأنهم في شدة جهلهم على غاية البصيرة من العلم بما يقولون؛ والنغض والإنغاض: تحريك بارتفاع وانخفاض {ويقولون} استهزاء: {متى هو} ثم وصل به قوله تعالى: {قل} قول مقتصد غير ممتعض بحالهم ولا ضيق بقولهم: {عسى أن يكون} أي كوناً لا انفكاك عنه {قريباً} مطرقاً إليه الاحتمال لإمكانه غير جازم، ثم استأنف جازماً بقوله: {يوم} أي يكون ذلك يوم {يدعوكم} أي يناديكم المنادي من قبله بالنفخة أو بغيرها كأن يقول: يا أهل القبور! قوموا إلى الجزاء- أو نحو ذلك {فتستجيبون} أي توافقون الداعي فتفعلون ما أراد بدعائه وتطلبون إجابته وتوجدونها، أو استعار الدعاء والاستجابة للبعث والانبعاث تنبيهاً على سرعتهما وتيسر أمرهما، أو أن القصد بهما الإحضار للحساب {بحمده} أي بإحاطته سبحانه بكل شيء قدرة وعلماً من غير تخلف أصلاً، بل لغاية الإذعان كما يرشد إليه صيغة استفعل، وأنتم مع سرعة الإجابة تحمدون الله تعالى، أي تثبتون له صفة الكمال {وتظنون} مع استجابتكم وطول لبثكم {إن} أي ما {لبثتم} ميتين {إلا قليلاً} لشدة ما ترون من [الأهوال التي أحاطت بكم والتي تستقبلكم، أو جهلاً منكم بحقائق الأمور كما هي حالكم اليوم كما ترون من- جدة خلقكم وعدم تغيره.
ولما أمره سبحانه بإبلاغهم هذا الكلام، وفيه من التهكم بهم والتبكيت لهم والاستخفاف بعقولهم ما لا يعلم مقداره إلا مثلهم من البلغاء والعرب العرباء، وكان لكونه كلام العليم بالعواقب، الخبير بما تجن الضمائر- ربما استن به المؤمنون فخاطبوهم بنحوه من عند أنفسهم، نهاهم عن ذلك لئلا يقولوا ما يهيج شراً أو تثير ضراً، فقال تعالى: {وقل} أي قل لهم ذلك من الحكمة والموعظة الحسنة، وقل {لعبادي} أي الذين هم أهل للإضافة إليّ، واعظاً لهم لئلا يتجاوزوا الحد من شدة غيظهم من المشركين، إن تقل لهم ذلك {يقولوا} الموعظة والحكمة والمجادلة {التي هي أحسن} لأكون معهم لأني مع الذين اتقوا والذين هم محسنون؛ ثم علل ذلك بقوله تعالى: {إن الشيطان} أي البعيد من الرحمة، المحترق باللعنة {ينزغ بينهم} أي يفسد ويغري ويوسوس، وأصل النزغ الطعن، وهم غير معصومين، فيوشك أن يأتوا بما لا يناسب الحال أو الوقت بأن يذكروا مساوئ غيرهم أو محاسن أنفسهم فيوقع في شر؛ ثم علل هذه العلة بقوله تعالى: {إن الشيطان كان} أي في قديم الزمان وأصل الطبع كوناً هو مجبول عليه {للإنسان عدواً} أي بليغ العداوة {مبيناً} ثم فسر {التي هي أحسن} مما علمهم ربهم من النصفة بقوله تعالى: {ربكم أعلم بكم} ثم استأنف فقال تعالى: {إن يشأ} رحمتكم {يرحمكم} بأن ييسر لكم أفعال الخير {أو إن يشأ} عذابكم {يعذبكم} بأن ييسركم لأفعال الشر، فإذا قالوا لهم ذلك كانوا جديرين بأن يعرضوا- أو من أراد الله منهم- أفعالهم على ما يعلمونه من الخير والشر فينظروا أيهما أقرب إليها، وربما ردهم ذلك من أنفسهم عن الفساد، لحسم مادة العناد، ويجوز- وهو- عندي أحسن- أن تكون الآية استئنافاً واقعاً موقع التعليل للأمر بقول الأحسن، أي {ربكم} أيها العباد {أعلم بكم} وبما يؤول أمركم إليه من سعادة وشقاوة {إن يشأ يرحمكم} بهدايتكم {أو إن يشأ يعذبكم} بإضلالكم، فلا تحتقروا أيها المؤمنون المشركين فتقطعوا بأنهم من أهل النار فتعيروهم بذلك، فإنه يجر إلى الإحن وحر الصدور وغيظ القلوب بلا فائدة، لأن الخاتمة مجهولة، ولا تتجاوزوا فيهم ما آمركم به من قول وفعل فإنه الأحسن؛ ثم رقى الخطاب إلى أعلى الخلق ورأس أهل الشرع ليكون من دونه أولى بالمعنيّ منه فقال تعالى: {وما} أي فما أرسلناك إلا للدعاء بمثل ذلك على حسب ما نأمرك به، وما {أرسلناك} أي مع ما لنا من العظمة الغنية عن كل شيء {عليهم وكيلاً} أي حفيظاً وكفيلاً لغيرهم على ما يرضي الله، وإنما أرسلناك بشيراً ونذيراً فدارهم وأمر أصحابك بمداراتهم.
ولما أمرهم بأن ينسبوا الأعلمية بهم إليه سبحانه، أخبر بما هو أعم من ذلك فقال تعالى عاطفاً على {ربكم} إعلاماً بأن علمه ليس مقصوراً عليهم، بل هو محيط، قاصراً الخطاب على أعلم الخلق به سبحانه إشارة إلى أنه لا يعلم هذا حق علمه غيره: {وربك} أي المحسن إليك بأن جعلك أكمل الخلق {أعلم} أي من كل عالم {بمن في السماوات} أي كلها {والأرض} منهم ومن غيرهم، بأحوالهم ومقاديرهم وآجالهم وما يستأهل كل واحد منهم، لأنه هو الذي خلقهم وفاوت بينهم في أخلاقهم وهيئاتهم فكيف يستبعدون أن يكون يتيم أبي طالب- على ما كانوا يقولون- نبياً، وأن يكون أصحابه العراة الجياع أفضل منهم.
ولما كان قد فهم من هذا السياق تفضيل بعض الأشياء على بعض حتى تصير قابلة الروح الحياة بدءاً وإعادة، بعد أن فهم من أول السورة وآخر التي قبلها اختصاص بعض الأنبياء بفضائل من روح العلم والحكمة لم يحزها غيره، صرح بهذا هنا فقال تعالى عطفاً على ما أرشد إليه سياق الإخبار بالأعلمية، ملتفتاً إلى مقام العظمة الداعي إليه الحال، وهو الوصف بالأعلمية: {ولقد} أي فميزنا بينهم بالرذائل والفضائل تفضيلاً لبعضهم على بعض على حسب إحاطة علمنا بهم وشمول قدرتنا لهم في تأهلهم للسعادة والشقاوة ففضلنا بعض الناس على بعض، ففضلنا العلماء على غيرهم، وفضلنا النبيين منهم على غيرهم، ولقد {فضلنا} أي بما لنا من العظمة {بعض النبيّن} أي سواء كانوا رسلاً أو لا {على بعض} بعد أن جعلنا الكل فضلاء لتقوى كل منهم وإحسانه، فلا ينكر أحد من العرب أو بني إسرائيل أو غيرهم تفضيلنا لهذا النبي الكريم الذي صدرنا السورة بتفضيله على جميع الخلائق، فإنا نفعل ما نشاء، بما لنا من القدرة التامة والعلم الشامل، والحاصل أن من أعظم ثمرات العمل التفضيل بإعطاء كل واحد بل كل شيء ما يستحقه، وبذلك يستدل على تمام- حكمته في شمول علمه وكمال قدرته، فلذلك ذكر التفضيل هنا بعد ذكر العلم المطلق، وصرح بتفضيل أشرف الخلائق وطوى ذكر غيرهم، كما ذكر التفضيل في الدنيا بعد إثبات العلم المقيد بالذنوب في قوله: {من كان يريد العاجلة} إلى قوله تعالى: {انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض}.
ولما كان القصد إلى بني إسرائيل في هذه السورة سابقها ولاحقها ظاهراً، والتعريض بهم في كثير منها بيناً، وكان داود عليه السلام هو المؤسس للمسجد الأقصى الذي وقع الإسراء إليه، وكان قد خص بأن ألين له الحديد الذي أمر المشركون أن يكونوه، لاستبعادهم الإعادة، وكان- مع كونه ملكاً- من أشد الناس تواضعاً، وأكثرهم بكاء، وأبعدهم من المرح في الأرض، قال تعالى: {وءاتينا} أي بما لنا من العظمة {داود} أي الذي هو من أتباع موسى الذي آتيناه الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا يتخذوا من دوني وكيلاً {زبوراً} لأنهم قاطعون بأن من بين موسى وعيسى من أنبياء بني إسرائيل دون موسى في الرتبة، وكل منهم داعٍ إلى شريعته، عامل بحكم التوراة التي شرفه الله بها، غير خارج عن شيء من سنتها، فكان القياس يقتضي أن يكونوا في الفضيلة سواء، فلم يجر ذلك على مقتضى عقول الناس، بل فاوت سبحانه بينهم على حسب علمه بأحوالهم حتى في الوحي، فخص من بينهم داود عليه السلام بكتاب كله مواعظ، والمواعظ أشد شيء منافاة للمشي في الأرض مرحاً، ونهياً عنه، وأعظم شيء أمراً بالقول الذي هو أحسن من الإخلاص والمراقبة والإحسان، هذا إلى ما ذكر فيه من التسبيح من كل شيء الذي هو من أعظم مقاصد السورة كما تقدم نص الزبور به قريباً، فكان ذكر تفضيله به هنا أنسب شيء لهذا المقام، وفي ذلك أعظم إشارة وأجل تنبيه على فضل بيت المقدس الذي جعله سبباً لتفضيل الأنبياء تارة بالهجرة إليه كإبراهيم عليه السلام وتارة بقصد تطهيره من الشرك وتنويره بالتوحيد كموسى عليه السلام، وتارة بتأسيس بنيانه وتشييد أركانه كداود عليه السلام، وتارة بالإسراء إليه والإمامة بالأنبياء عليهم السلام به والعروج منه إلى سدرة المنتهى والمقام الأعلى، وأما تفضيله وتفضيل ابنه سليمان- على نبينا محمد وعليهما الصلاة والسلام- بالملك وسعة الأمر فدخل في قوله تعالى: {انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض} وروى البخاري في التفسير عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: خفف على داود القراءة فكان يأمر بدوابه لتسرج، فكان يقرأ قبل أن يفرغ- يعني القرآن، ومن أعظم المناسبات لتخصيص داود عليه السلام وزبوره بالذكر هنا ذكر البعث الذي هذا مقامه فيه صريحاً، وكذا ذكر النار مع خلو التوراة عن ذلك، أما البعث فلا ذكر له فيها أصلاً، وأما النار فلم يذكر شيء مما يدل عليها إلا الجحيم في موضع واحد، وأما الزبور فذكر فيه النار والهاوية والجحيم في غير موضع، وأما البعث فصرح به، وهو ظاهر في كونه بالروح والجسد، قال في المزمور الثالث بعد المائة: نفسي تبارك الرب، الرب إلهي عظيم جداً، لبس المجد، وعظيم البهاء، وتجلل بالنور كالرداء، ومد السماء كالخباء، جعل الماء أساسها، واستوى على السحاب، ومشى على أجنحة الرياح، خلق ملائكته أرواحاً وخدمه ناراً واقدة، وتجلل بالغمر كالرداء، وعلى الجبال تقف المياه، ومن رجزك قهرت، ومن صوت رعدك تجزع الجبال عالية، والبقاع منهبطة في الأماكن التي أسست، جعلت حداً لا تتجاوزه، لا تعود تغطي الأرض، أرسل الماء عيوناً في الأودية، وبين الجبال تجري المياه لتسقي حيوان البر، وتروي عطاش الوحوش، يقع عليها طائر السماء إلى أن قال: وكل بحكمة صنعت، امتلأت الأرض من خليقتك، هذا البحر العظيم السعة فيه حيتان لا تحصى كبار وصغار، وفيه تسلك السفن، وهذا التنين الذي خلقته ليتعجب منه، والكل إياك يرجون لتعطيهم طعامهم في حينه، فإذا أنت أعطيتهم يعيشون، وعند بسط يدك بالطيبات يشبعون، وحين تصرف وجهك يجزعون، تنزع أرواحهم فيموتون، وإلى التراب يرجعون، ترسل روحك فيخلقون، وتجدد وجه الأرض دفعة أخرى، ويكون مجد الرب إلى الأبد- انتهى.
فكأن ذلك جواب لقول من لعله يقول للعرب من اليهود: إن الأمر كما تقولون في أنه لاقيامة- كما يقوله بعض زنادقتهم كما ذكر عنهم في نص الإنجيل وكما نقل عنهم في سورة النساء أنهم قالوا: أنتم أهدى سبيلاً، ودينكم خير من دين محمد، وفي الزبور- كما تقدم في أول السورة عن توراة موسى عليه الصلاة والسلام- ألا تتخذوا من دون الله وكيلاً، وذلك من أعظم مقاصد السورة، قال في المزمور الخامس والأربعين بعد المائة: لا تتوكلوا على الرؤساء ولا على بني البشر الذين ليس عندهم خلاص، فإن أرواحهم تفارقهم ويعودون إلى ترابهم، في ذلك اليوم تبطل أعمالهم.

.تفسير الآيات (56- 58):

{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57) وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58)}
ولما أثبت أن شأنه تعالى فعل ذلك وأمثاله من التفضيل والتحويل على حسب علمه وقدرته، ثبت بغير شبهة أن لا مفزع إلا إليه، فأمره صلى الله عليه وعلى آله وسلم تحقيقاً لذلك أن يأمرهم بما يظهر به عجز شركائهم، رداً عليهم في قولهم: لسنا بأهل لعبادته استقلالاً، فنحن نعبد بعض المقربين ليشفع لنا عنده، فقال تعالى: {قل ادعوا الذين} وأشار إلى ضعف عقولهم وعدم تثبتهم بالتعبير بالزعم فقال تعالى: {زعمتم} أنهم آلهة؛ وبين سفول رتبتهم بقوله تعالى: {من دونه} أي من سواه كالملائكه وعزير والمسيح والأصنام، ليجلبوا لكم خيراً، أو يدفعوا عنكم ضراً {فلا} أي فإن دعوتموهم أو لم تدعوهم فإنهم لا {يملكون كشف الضر} أي البؤس الذي من شأنه أن يرض الجسم كله {عنكم} حتى لا يدعوا شيئاً منه {ولا تحويلاً} له من حالة إلى ما هو أخف منها، فضلاً عن أن يبدلوه بحالة حسنة أو يحولوه إلى عدوكم، والآية نحو قوله تعالى: {فما يستطيعون صرفاً ولا نصراً} [الفرقان: 19] فكيف يتخذ أحد منهم دوني وكيلاً؟ قالوا: وسبب نزولها شكوى قريش إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما نزل بهم من القحط حين دعا عليهم بسبع كسبع يوسف عليه السلام. ولم ينضب {يملكون} لئلا يظن أن النفي مسبب عن الدعاء فيتقيد به.
ولما بين أنه لا ضر لهم ولا نفع، بين أنهم يتسابقون إلى القرب إليه رجاء أن ينفعهم وخوف أن يضرهم فقال تعالى: {أولئك} أي الذين أعلوا مراتبهم بالإقبال على طاعة الله، وكان المشركون يعلون مراتبهم بتألههم، وعبر عن ذلك واصفاً للمبتدإ بقوله تعالى: {الذين يدعون} أي يدعوهم الكفار ويتألهونهم؛ ثم أخبر عن المبتدإ بقوله تعالى: {يبتغون} أي يطلبون طلباً عظيماً {إلى ربهم} المحسن إليهم وحده {الوسيلة} أي المنزلة والدرجة والقربة بالأعمال الصالحة {أيهم أقرب} أي يتسابقون بالأعمال مسابقة من يطلب كل منهم أن يكون إليه أقرب ولديه أفضل {ويرجون رحمته} رغبة فيما عنده {ويخافون عذابه} تعظيماً لجنابه، المكلف منهم كالملائكة والمسيح وعزير بالفعل، وغيرهم كالأصنام بالقوة من حيث إنه قادر على أن يخلق فيها قوة الإدراك للطاعة والعذاب فتكون كذلك فالعابدون لهم أجدر بأن يعبدوه ويبتغوا إليه الوسيلة؛ وروى البخاري في التفسير عن عبد الله رضي الله عنه {إلى ربهم الوسيلة} قال: كان ناس من الإنس يعبدون ناساً من الجن فأسلم الجن وتمسك هؤلاء بدينهم. ثم علل خوفهم بأمر عام فقال تعالى: {إن عذاب ربك} أي المحسن إليك برفع انتقام الاستئصال منه عن أمتك {كان} أي كوناً ملازماً له {محذوراً} أي جديراً بأن يحذر لكل أحد من ملك مقرب ونبي مرسل فضلاً عن غيرهم، لما شوهد من إهلاكه للقرون ومن صنائعه العظيمة.
ولما كان المعنى: فاحذرونا فإنا أبدنا الأمم السالفة ودمرنا القرى المشيدة، عطف عليه قوله تعالى: {وإن} أي وما؛ وأعرق في النفي فقال تعالى: {من قرية} من القرى هذه التي أنتم بها وغيرها {إلا نحن} أي بما لنا من العظمة {مهلكوها} بنوع من الهلاك، لما هم عليه من الكفر أو العصيان، وعن مقاتل أنها عامة للصالحة بالموت والطالحة بالعذاب.
ولما كان الممكن ليس له من ذاته إلا العدم، وذلك مستغرق لزمان القبل، حذف الجار فقال تعالى: {قبل يوم القيامة} الذي أنتم به مكذبون، كما فعلنا في بيت المقدس في المرتين المذكورتين أول السورة لإفساد أهلها فاحذروا مثل ذلك {أو معذبوها} أي القرية بعذاب أهلها {عذاباً شديداَ} مع بقائها.
ولما أكد ذلك بالاسمية، زاده تأكيداً في جواب من كأنه قال: هل في ذلك من ثنيا لأن مثله لا يكاد يصدق؟ فقال تعالى: {كان ذلك} أي الأمر العظيم {في الكتاب} الذي عندنا {مسطوراً} على وجه الخبر، والأخبار لا تنسخ، فلو لم يكن حشر كان أمرنا جديراً بأن يمتثل حذراً من سطواتنا، ولابد من أن نخيفكم بعد طول أمنكم ونهلك كثيراً من أعزائكم على يد هذا الرجل الواحد الذي أنتم كلكم متمالئون عليه مستهينون بأمره، مع أنا أرسلناه لعزكم وعلو ذكركم، ولابد أن ندخله إلى بلدكم هذا بجنود أولي بأس شديد، لإفسادكم فيه واستهانتكم به كما فعلنا ببني إسرائيل حين أفسدوا في مسجدهم كما تقدم؛ قال الإمام الحافظ أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني في كتاب الفتن: حدثنا عبد بن أحمد بن محمد الهروي في كتابه ثنا عمر بن أحمد بن عثمان بن شاهين ثنا محمد بن هارون الحضرمي ثنا علي بن عبد الله التميمي ثنا عبد المنعم بن إدريس قال: أخبرنا أبي عن وهب بن منبه قال: الجزيرة آمنة من الخراب حتى تخرب إرمينية، وإرمينية آمنة من الخراب حتى تخرب مصر، ومصر آمنة من الخراب حتى تخرب الكوفة، ولا تكون الملحمة الكبرى حتى تخرب الكوفة، فإذا كانت الملحمة الكبرى فتحت القسطنطينية على يدي رجل من بني هاشم، وخراب الأندلس من قبل الزنج، وخراب إفريقية من قبل الأندلس، وخراب مصر من انقطاع النيل واختلاف الجيوش فيها، وخراب العراق من قبل الجوع والسيف، وخراب الكوفة من قبل عدو من ورائهم يحقرهم حتى لا يستطيعوا أن يشربوا من الفرات قطرة، وخراب البصرة من قبل العراق، وخراب الأبلة من قبل عدو يحفزهم مرة براً ومرة بحراً، وخراب الريّ من قبل الديلم، وخراب خراسان من قبل تبت، وخراب تبت من قبل الصين، وخراب الصين من قبل الهند، وخراب اليمن من قبل الجراد والسلطان، وخراب مكة من قبل الحبشة، وخراب المدينة من قبل الجوع؛ حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد حدثنا علي بن محمد بن نصير حدثنا محمد بن خلف أخبرنا سالم بن جنادة أخبرنا أبي عن هشام بن عروة عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «آخر قرية من قرى الإسلام خراباً المدينة» انتهى. وقد أخرجه الترمذي من هذا الوجه.